سورة غافر - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [غافر: 40/ 66- 68].
جاءت هذه الآيات الشريفة بعد بيان صفات اللّه تعالى، بأنه الحي القيوم، وذلك يقتضي فساد حال الأصنام، وأنها موات جماد هامدة، ليس فيها شيء من صفات اللّه تعالى، التي منها صدور الأمر من لدنه، وإيجاد الأشياء، وتدبير الأمر كله، وعلمه بالكل، مما يدل دلالة قاطعة على أنه حي لا إله إلا هو.
أمر اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد هذا: أن يصدع بأنه نهي عن عبادة الأصنام التي عبدها الكفار من دون اللّه سبحانه وتعالى، وأمر بعدها بالإسلام الذي هو الإيمان والأعمال.
قل أيها الرسول لمشركي قومك المكيين: إن اللّه تعالى ينهاني عن عبادة أحد من غير اللّه تعالى من الأصنام والأنداد والأوثان، حين جاءتني الأدلة القاطعة من آي القرآن والبراهين العقلية الدالة على التوحيد، وأمرت بالإسلام لله والانقياد لأوامره، وإخلاص الدين له، وإعلان الإيمان وأداء الأعمال المفروضة، والاستسلام لرب العالمين من إنس وجن، والخضوع له بالطاعة، والرضا بما أمر ونهى.
ثم ذكر اللّه تعالى أربعة أدلة من دلائل الآفاق والأنفس تدل على وحدانية اللّه وهي:
أولا- إن اللّه تعالى خلق أبا الإنسانية الأول آدم عليه السّلام من التراب، وجعل ذريته أيضا من تراب، لأن كل مخلوق من المني ناشئ من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات، والنبات من الماء والتراب، فكان كل إنسان متكونا من التراب، ثم تكاثر النوع الإنساني بما هو معروف من النطفة المنوية، ثم من العلقة (قطعة الدم المتماسكة) ثم من المضغة (قطعة اللحم المتجمدة) ثم ينفخ فيها الروح، ويتم ولادة الأطفال، ثم يبلغ الولد مرحلة النضج واكتمال العقل والقوة: وهي بلوغ الأشدّ، ثم الصيرورة إلى مرحلة الشيخوخة والهرم، وقد يتوفى اللّه بعض الناس قبل مرحلة الشيخوخة، إما في الكهولة أو الشباب أو الطفولة، وكل هذه المراحل ليتوصل كل إنسان إلى أجله المحدود المقدّر له: وهو وقت الموت، ثم وقت القيامة، ولعلكم أيها الناس تفكرون في هذه المراحل، وتدركون ما تتطلبه كل مرحلة من عناية إلهية.
وقوله تعالى بعد سرد مراحل أو أطوار الخلق الإنساني: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} يراد به: هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة من اللّه، ليبلغ كل واحد منها أجلا مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه، وليكون معتبرا متعظا، ولعلكم أيها البشر تعقلون الحقائق إذا نظرتم في هذا، وتدبرتم حكمة اللّه فيه، ففي هذا الانتقال والتدرج أو التطور في الخلق دلالة على وجود اللّه تعالى.
ثانيا- أي الدليل الثاني- أن اللّه هو القادر على الإحياء والإماتة، فالله وحده هو الذي يحيي المخلوقات ويميتها، وهو المتفرد بذلك، فإذا قضى وقدر أمرا يريد إنفاذه وإيجاده، وإخراج المخلوق من العدم، فإنما يقول له كُنْ فيكون ويوجد، من غير توقف على شيء آخر، ولا معاناة ولا كلفة، أي إن كل مخلوق يوجد بإرادة اللّه وحده، مما يدل على وجوده سبحانه.
فقوله تعالى: {فَإِذا قَضى أَمْراً} يراد به إنفاذ الإيجاد وإظهار المخلوق، وإيجاد الموجودات هو بالقدرة الإلهية، واقتران الأمر بالقدرة: هو عظمة في الملك، وإظهار للقدرة، وتخضيع للمخلوقات. وبه يتبين أن إيجاد المخلوق يعتمد على أمرين: الأمر الالهي بالإيجاد، وتلبّس القدرة الالهية بإيجاده وإظهاره، لا قبل ذلك، ففي حال العدم لا يظهر الشيء إذ لا يوجد الأمر، ولا شي بعد الإيجاد، لأن ما هو كائن، لا يقال له: كن.
جزاء المجادلين بالباطل:
الحياة الإنسانية إما أن تزدان وتسمو بمواقف الحق والجرأة والإيمان، وإما أن تهبط وتنحدر بمواقف الباطل والكفر والخذلان، والناس بين هذين الموقفين في مرصد التاريخ، فإن كانوا من أصحاب الموقف الأول، خلّد التاريخ ذكرهم، وكانوا أسوة الأجيال، وإن كانوا من أصحاب الموقف الثاني طواهم التاريخ، ولم يذكروا إلا للعبرة والشماتة، وهكذا كان المعارضون لدعوة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ورسالته عبرة للتاريخ، فإنهم جادلوا بالباطل في شأن الرسالة النبوية والكتاب الذي جاء به، وكذبوا بهما، فاستحقوا ويلات العذاب، كما تصف هذه الآيات الشريفة:


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)} [غافر: 40/ 69- 78].
هذا موقف المعاندين أهل الباطل، فانظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات اللّه الواضحة والدالة على الإيمان، والإقرار بالوحدانية والبعث، كيف يصرفون عنها ويتركون الهدى إلى الضلال؟
إنهم هم الذين كذّبوا بالقرآن، وبرسالات الرسل الداعية إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله، والشرائع الصالحة لحياة الإنسان، فسوف يعلمون مصائرهم الوخيمة وعواقب السوء المترتبة على مواقفهم.
إنهم سوف يعلمون حين تجعل القيود في أعناقهم، ويسحبون بالسلاسل في الحميم: وهو الماء المتناهي في الحرارة، فيحرقون ظاهرا وباطنا.
ثم يقال لهم من الملائكة توبيخا وتقريعا: أين الأصنام والشركاء التي كنتم تعبدونها من دون اللّه؟ قالوا مجيبين: لقد غابوا عنا وذهبوا فلم ينفعونا، بل في الواقع تبينا أننا لم نكن نعبد شيئا له قيمة وجدوى أو نفع، ومثل ذلك الضلال، يضل اللّه الكافرين على ممر الزمان، حيث أوصلتهم إلى النار، بضلالهم وتركهم سادرين في هذا الضلال، وعلى هذا اللون من الاختلاط وبيان فساد الذهن والنظر، وهذا الترتيب، بكشف الحقائق ومصادقة الواقع، واضطراب الأقوال، واللجوء إلى الكذب، فيقولون: بل لم نكن نعبد شيئا.
وذلكم العذاب اللاحق بهم، والإضلال بتركهم في ضلالهم، بسبب ما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي اللّه، والابتهاج بمخالفة الرسل والكتب الإلهية، وبسبب موقف البطر والأشر والتكبر، فهذا جزاء الشرك والوثنية. وجزاؤكم أيها المشركون الإدخال في أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم، المؤدية إلى طبقاتها ودركاتها، كما جاء في آية أخرى: {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر: 15/ 44].
فبئس موضع الإقامة والمأوى الذي فيه الهوان والتعذيب لمن تكبر عن آيات اللّه وبراهينه القاطعة. ثم آنس اللّه تعالى نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ووعده بالنصر بقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي اصبر أيها النبي على تكذيب قومك، فإن وعد اللّه بالنصر عليهم وإظهار أمرك ودعوتك والانتقام منهم كائن واقع لا محالة، إما في حياتك حيث تراه وتقرّ به عينك، وإما بعد موتك، حيث يصيرون ويرجعون إلى أمرنا وتعذيبنا.
أي إما أن نرينك في حال حياتك بعض ما وعدناهم به من العذاب، كالقتل، والأسر يوم بدر وغيره، وذلك بعض ما يستحقونه، وإما أن نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم، فإلينا مصيرهم يوم القيامة. وهذا كما جاء في آية أخرى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)} [الزخوف: 43/ 41- 42].
ثم رد اللّه على العرب الذين قالوا: إن اللّه تعالى لا يبعث بشرا رسولا، واستبعدوا ذلك، فلقد أرسلنا رسلا وأنبياء كثيرين، من قبلك أيها النبي الرسول، إلى أقوامهم، منهم من أخبرناك بأخبارهم، وهم أربعة وعشرون، ومنهم من لم نخبرك عنهم شيئا، ولم يكن لرسول من الرسل الإتيان لقومه بمعجزة خارقة للعادة إلا بأمر أو إذن من اللّه له في ذلك، فإذا حان وقت العذاب في الدنيا أو الآخرة، قضي بالعدل فيما بينهم، وخسر كل مبطل، وحصل على فساد آخرته. فتكون الآية توعدا لهم، أو إذا أراد اللّه إرسال رسول وبعثة نبي، قضى اللّه ذلك، وأنفذه بالحق، وخسر المبطلون، فتكون الآية على هذا التأويل ردا على قريش في إنكارهم أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
نعم اللّه وتهديد أهل الجدل بالباطل:
لا يمكن لأحد في العالم عنده مسكة من عقل أن ينكر فضل اللّه ونعمه على الناس، لأن الواقع المشاهد حجة دامغة، ولا يستطيع أحد إنكاره أو تجاوزه، وما أكثر الأدلة الحسية الميدانية من التاريخ في تعذيب المبطلين المكابرين بالمجادلين في آيات اللّه تعالى، لذا كان تحدي الواقع سببا موجبا للتهديد بالعذاب، وإيقاعه على أولئك المعاندين المغترين بدنياهم، المستهزئين بآيات اللّه، وإذا وقع العذاب، حدث الندم الشديد، ولم ينفع الإيمان والاعتذار في ذلك الوقت، كما تصور هذه الآيات:


{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)} [غافر: 40/ 79- 85].
هذه آيات للعبر، وتعداد النعم، والاحتكام للواقع المشاهد، فالله تعالى جعل لكم أيها البشر الأنعام وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والغنم والمعز. فبعضها في الغالب للركوب كالإبل، وبعضها للأكل وحرث الأرض عليها كالبقر، وبعضها للأكل وشرب اللبن كالغنم، وكلها تتكاثر وتتوالد، ويستفاد من أصوافها وأوبارها.
فكلمة (منها) الأولى في قوله {لِتَرْكَبُوا مِنْها} للتبعيض لأن المركوب منها هو الإبل خاصة، وكلمة (منها) الثانية {وَمِنْها تَأْكُلُونَ} لبيان الجنس، لأن الجميع منها يؤكل، ولكم أيها البشر في الأنعام منافع أخرى غير الركوب والأكل من صوف وشعر ووبر، وزبد وسمن، وجبن وغير ذلك، ولحمل الأثقال على بعضها إلى البلاد النائية بيسر وسهولة، وعلى الإبل وغيرها في البر، وعلى السفن في البحر، تحملون وتنقلون من بلد إلى آخر.
واللّه تعالى يريكم أيها الناس عيانا هذه الآيات والبراهين في الآفاق والأنفس، والتي هي كلها ظاهرة دالة على كمال قدرته ووحدانيته، مما لا سبيل لإنكاره، فأي آية من آياته الباهرة تنكرون؟ إنها كلها مشاهدة مرئية، لا تستطيعون إنكارها، ففي كل شيء له آية تدل على وحدانيته، لذا فإنكم على سبيل التوبيخ كيف تنكرون آية منها؟
ثم احتج اللّه تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من نقمات اللّه، مع أنهم كانوا أكثر عددا، وأشد قوة أبدان وممالك، وأعظم آثارا في المباني والأفعال من قريش والعرب. أفلم يسر هؤلاء المشركون المجادلون بالباطل في آيات اللّه، فينظروا في أسفارهم كيف كان مصير الأمم السابقة التي عصت اللّه تعالى، وكذّبت رسلها، ويشاهدوا آثارهم القائمة في ديارهم نتيجة العقاب والتعذيب، مع أنهم كانوا أكثر من مشركي قريش عددا، وأقوى منهم أجسادا، وأوسع منهم أموالا، وأبقى في الأرض آثارا بالمباني والقصور والحصون والمزارع والسدود، فلما حلّ بهم العذاب، لم ينفعهم مالهم ولا أولادهم، ولا أغنى عنهم كسبهم ولا حالهم شيئا، حين جاءهم عذاب اللّه وأخذه.
فلما جاءت الرسل بالحجج والبراهين الواضحة الدالة على صدق نبوتهم ورسالتهم، أعرضوا عنهم، ولم يلتفتوا إليهم، وفرحوا بما لديهم من العلوم والمعارف، وهي الشبهات والضلالات الزائفة التي ظنوها علما نافعا، وأحاط بهم العذاب من كل جانب، ونزل بهم من العذاب الذي كذبوا به ما كانوا يستبعدون وقوعه، استهزاء وسخرية. وهذا كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا} [الروم: 30/ 7].
ثم أخبر اللّه تعالى عن حالة بعض أولئك المعذبين الذين آمنوا بعد تلبّس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك. إنهم حينما عاينوا وقوع العذاب بهم، صدقوا بالله ووحّدوه، وكفروا بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله، وهي الأصنام، فلم ينفعهم إيمانهم شيئا عند معاينة العذاب وشدة الانتقام، لأنه إيمان اليأس والإلجاء والقهر، فهو إيمان قسري عن إكراه فلا يقبل، لأنه في تلك الحال لا يبقى مجال للتكليف وقبول الإيمان.
ثم ذكر اللّه تعالى حكمه العام في الأمم، وهو أن هذا العذاب هو حكم اللّه وطريقته في جميع من تاب عند معاينة العذاب بأنه لا يقبل، وخسر الكافرون وقت رؤيتهم بأس اللّه ومعاينتهم لعذابه، والكافر خاسر في كل وقت، ولكن يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.

1 | 2 | 3 | 4